جَليٌ أن مُقترح الوسيط الدولي على اطراف النزاع الدولي لا يَصير حلاً للنزاع إلا بموافق كافة الدول المتنازعة على ذلك المقترح، وتَذخر النزاعات الدولية بالأمثلة الكثيرة التي رُفضت فيها العروض التلقائية التي قامت بها الدول للوساطة بين الدول المتنازعة، فقد رفضت تركيا الوساطة التي اقترحتها الولايات المتحدة الأمريكية لتسوية النزاع التركي الإسرائيلي علي خلفية حادثة "السفينة مرمرة " في عام 2010، كما رفضت أثيوبيا وسم الجهود التوفيقية التي قامت بها الولايات المتحدة عامي 2019 و2020 لتسوية النزاع حول سد النهضة بأنها وساطة دولية، ورفضت أثيوبيا مؤخراً الوساطة الرباعية التي اقترحتها السودان وأيدتها مصر لتسوية النزاع المتفاقم حول سد النهضة.

لقد اعتبرت اتفاقيتي لاهاي لعامي 1899 و1907 الخاصة بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وضبطت قواعد ممارستها، أن الوساطة هي مجرد مشورة غير الزامية سواء عُرضت تلقائياً من جانب الوسيط الدولي أم بناء على طلب الدول المتنازعة، كما أكدت الاتفاقيتان على أن الوساطة لا تعتبر بحد ذاتها عملا غير وديا، كما أشارت إلي أن الدول يحق لها أن تعرض وساطتها مرة ثانية رغم رفضها أول مرة، وقد تَضمنت المادة الثانية من اتفاقية عام 1907 دعوة الدول المتعاقدة إلي أن تلجأ، وبقدر ما تسمح به الظروف إلي وساطة دولة أو دول صديقة قبل أن تلجأ للحرب كوسيلة لتسوية النزاع آنذاك، أما المادة التاسعة من ذات الاتفاقية فقد أقرّت أنه من المفيد أن تقوم إحدى الدول الأجنبية عن النزاع من تلقاء نفسها بعرض خدماتها الودية ووساطتها بقدر ما تسمح به الظروف دون أن يعتبر مثل هذا العرض بأي حال عملا غير ودي من قبل أي من الدول المتنازعة، ومع ذلك، فقد تكون للدولة الوسيطة بواعثها الخاصة التي تتوخاها من النزاع وأطرافه، ومصلحة خاصة ترجوها من هذه الأطراف ومن تسوية النزاع، ولذلك فإنه كثيراً ما تسعي هذه الدولة إلي بسط وساطتها علي الأطراف المتنازعة بإلحاح أو تمارس وساطتها لأجل أن يَقبل بها الأطراف المتنازعة.

قد تتقدم دولة واحدة بالمبادرة بعرض وساطتها علي أطراف النزاع وهذا هو الغالب، وقد تتقدم بها مجموعة من الدول كذلك، ومن الأمثلة الصارخة في هذا المقام تلك الوساطة التي بذلتها مجموعة من الدول هي مصر، كمبوديا، بورما، سيريلانكا، غانا، إندونيسيا، وقادت هذه الدول جهود تسوية النزاع الحدودي بين الهند والصين عام 1962، ومثلما تقوم الدول بجهود الوساطة تقوم المنظمات الدولية كذلك بذات الدور، ويكفينا في هذا المقام الاستشهاد بالوسيط الأممي الكونت "برنادونت"، الذي عَينه مجلس الأمن في 20 مايو 1948 لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي المسلح في فلسطين، ومن بعده الدكتور "رالف بانش" الذي قادت وساطته إلي إنهاء الحرب الفعلية بين الدول العربية وإسرائيل عام 1948.

لقد أشارت مواثيق دولية عديدة إلى آلية الوساطة كوسيله دبلوماسية لتسويه النزاعات بين الدول ومنها على الخصوص ميُثاق منظمة الأمم المتحدة، وميثاق جامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية وغيرها، وأشارت هذه الصكوك الدولية إلي بواعث وغايات الوساطة الدولية، حيث أكدت أن الوساطة وسيله متميزة تهدف إلي تسهيل إجراء الحوار أي المفاوضات، والتخفيف من حِدة الجفاء بين المتنازعين، والتوفيق بين ادعاءاتهم المتضاربة، ومساعدتهم على إيجاد الحلول الودية والعادلة لمنازعاتهم.

خِتاماً، إذا كان القانون الدولي ينظم الأُسس والأركان والأحكام المتعلقة بالوساطة الدولية، فان ذات القانون يُنَظِم ويُؤَطِر في ذات الوقت المبادئ والقواعد المتعلقة بحسن النية في تنفيذ المعاهدات الدولية، وقُدسية المعاهدات الدولية، وحُسن الجوار، والمساوة في السيادة بين الدول، وعدم التعسف في استعمال الحق، والانتفاع المنصف المشترك بالمجاري المائية الدولية في غير أغراض الملاحة.