مصير إعلان أديس أبابا بين تقدم والــ.ـدعم
تنظم الخارجية السويسرية ومنظمة برومدييشن خلال الفترة بين الـ25 والـ28 من نوفمبر الجاري الاجتماع الرابع لحوار “سوداني – سوداني” في مدينة جنيف بمشاركة الاتحاد الأفريقي والحكومة المصرية كمراقبين.
منذ توقيع إعلان أديس أبابا الوقع بين تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) وقوات “الدعم السريع” في يناير (كانون الثاني) الماضي ظل محلاً للجدل والتجاذبات السياسية، لكن بعد مرور أكثر من 10 أشهر على توقيع الإعلان ثار عديد من الاستفهامات في شأن جدواه. فعلى رغم نص الإعلان على التزام قوات “الدعم السريع” حماية المدنيين فإن الانتهاكات تزايدت بصورة كبرى، بخاصة ما حدث في قرى شرق الجزيرة، فهل تجاوزت تطورات الأحداث على الأرض الإعلان؟ وما المصير والمستقبل الذي ينتظره؟
وفقاً للإعلان تلتزم قوات “الدعم السريع” وقف الأعمال العدائية عبر التفاوض المباشر مع الجيش وتتعهد فتح الممرات ولتوصيل المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، وتوافق الطرفان على أن يشكل الإعلان أساساً للعملية السياسية التي تنهي الحرب وتؤسس للدولة السودانية على أن تطرح التفاهمات الواردة في الإعلان بواسطة “تقدم” على قيادة الجيش لتكون من بعد أساساً للتوصل إلى حل سلمي ينهي الحرب في البلاد.
فقدان القيمة
قال المتحدث الرسمي باسم تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) بكري الجاك إن ما تم توقعيه مع “الدعم السريع” هو إعلان مبادئ وليس اتفاقاً، والإعلان ليس له آليات تنفيذ وكان يعول عليه لإحداث اختراق سياسي، لكن وبرفض الجيش التوقيع عليه لم يعد له قيمة.
أشار الجاك إلى أن بنود إعلان أديس أبابا مثلها مثل إعلاني جدة والمنامة من الممكن أن يُبنى عليها مشروع لحل سياسي شامل، مبيناً أن إنهاء الإعلان من طرف واحد يقع ضمن مسؤولية مؤسسات تنسيقية (تقدم) المتمثلة في هيئة القيادة والأمانة العامة وبإمكانها اتخاذ هذا القرار.
إدانة صريحة
أوضح المتحدث الرسمي باسم تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية أنه “عملياً لا يوجد اتفاق بين (تقدم) و(الدعم السريع)، وكل ما تقوم به تلك القوات من انتهاكات هو محل إدانة من قبلنا مثلما فعلنا من قبل في أحداث منطقة ود النورة وقرية السريحة، وأخيراً قرى شرق الجزيرة”. وأكد أن قوات “الدعم السريع” إذا أرادت تحسين صورتها فعليها وقف الانتهاكات وتقديم منسوبيها المتورطين للمحاكمات، مشيراً إلى أن التنسيقية لا تتحمل أي مسؤولية أخلاقية أو قانونية أو سياسية لما تقوم به تلك القوات. واتهم من يروج لذلك بأنهم من “عصابة معسكر الحرب في بورتسودان التي كانت تفكر في مقابلة التنسيقية وأبلغتها كتابة بذلك، لكنها للأسف تراجعت وقررت توظيف الإعلان لتجريم (تقدم) بدلاً من مساعدتها في إنهاء الحرب التي يدفع ثمنها الشعب السوداني”.
تحت التقييم
في المقابل يرى مستشار قائد قوات “الدعم السريع” إبراهيم مخير أن اتفاق المبادئ جاء في المقام الأول كخطوة عملية تجاه السياسيين والسودانيين عموماً، وفرصة لإبداء حسن النوايا وتأكيداً للثوابت التي حددها القائد الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) في ما يخص دعم تطلعات الشعب السوداني في التوجه الصادق نحو إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة على أنقاض دولة 1956، التي يعدها فشلت في تحقيق حلم الاستقلال الحقيقي وتسببت في إشعال حروب راح ضحيتها ما يقارب 4 ملايين في أرجاء البلاد كافة، وانتهت بتدمير البنية التحتية للبلاد تماماً وتشتيت الناس نتيجة تمدد وانتشار الحرب من الأطراف والقرى إلى العمق والمدن الكبرى.
واعتبر مخير أن قوات “(الدعم السريع) تعكف بصورة دورية وبجدية تامة على تقييم كافة الالتزامات التي توقعها كمؤسسة مع جميع الأطراف، سواء كانوا سياسيين أو غيرهم على الصعيدين المحلي أو الدولي، وذلك في مساعيها إلى توسيع دائرة المساندين لوقف الحرب وعملية السلام في السودان بجميع الطرق الممكنة”. وتابع، “كانت التنازلات التي عرضها النظام باسم السودان ومن وراء ظهر شعبه من أجل إقناع روسيا باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، وإجهاض محاولات الدول المحبة للسودان لحماية المدنيين، في مقابل المبدأ نفسه الذي وقعنا عليه قبل 10 أشهر في الإعلان المبادئ، بل مصحوباً بخطوات عملية وبتعليمات مباشرة ومعلنة من القائد العام لحماية المدنيين، تبعها تأسيس قوات خاصة لذلك الغرض تعمل اليوم بكفاءة عالية”.
جبهة أوسع
عن مدى نظرتهم إلى جدوى وفاعلية الإعلان قال مخير في حديثه إلى “اندبندنت عربية” إنه على رغم حجم الجهود التي يبذلها رئيس تنسيقة “تقدم” عبدالله حمدوك، ما زالت الأهداف المعلنة في الإعلان تحتاج إلى بذل جهد أكبر ومستمر لتحقيقها، وربما ببناء جبهة سياسية أوسع، من دون التقيد بموقف من وصفهم بالمتطرفين وأنصارهم في الجيش الذين يواصلون وضع العقبات أمام أي إنجاز في هذا الاتجاه.
وأشار مستشار قائد “الدعم السريع”، إلى أن النيات التي أبداها حميدتي بتوقيعه على إعلان أديس أبابا إلى جانب دعمه المستمر لجميع الجهود الدولية في هذا الصدد لم تأتِ لتحقيق مكاسب من أي نوع، بل كان هدفها الوحيد هو وقف الحرب وتحقيق السلام وضمان العودة الآمنة للمهجرين.
ومضى في حديثه، “لو كان عبدالفتاح البرهان (قائد الجيش) استطاع حينها تحرير نفسه من سطوة الحركة الإسلامية العالمية لكان وفر كثيراً من العذابات التي يواجهها الشعب السوداني وقلل من الضحايا والهدر العبثي لثروات البلاد وطاقاتها”. وزاد، “فتح قائد (الدعم السريع) عقله وقلبه لأي مبادرات محلية كانت أو دولية لتحقيق السلام منذ اليوم الأول للحرب، بل من قبل ذلك حينما وقع على إطار المسار الديمقراطي، بينما رفض البرهان التوقيع النهائي الأخير”، مؤكداً أن قوات “الدعم السريع” لا تزال “مستعدة للتعاون ويدها ممدودة من أجل السلام مع كل إنسان منفرداً أو عبر أي كيان أو تكتل يسعى إلى وقف الحرب”.
إلغاء ضمني
على صعيد متصل يرى رئيس حزب الأمة رئيس تحالف التراضي الوطني مبارك الفاضل المهدي أن إعلان المبادئ بين تنسيقية “تقدم” و”الدعم السريع” تجاوزته الأحداث منذ زمن طويل، موضحاً أن تنسيقية “تقدم” نفسها سبق لها أن أعلنت أن عدم التزام حميدتي بما جاء في بنود الاتفاق أفقده جدواه.
واعتبر المهدي أن الإعلان كان يعبر عن مرحلة انتهت باتفاق القوى السياسية في الاجتماع الذي التأم بالعاصمة المصرية القاهرة، وأنهى الإقصاء والخلاف واتفق فيه على وقف الحرب وفق اتفاق جدة، وهذا يعني ضمنياً إنهاء اتفاق أديس أبابا.
على الصعيد ذاته رأى المتخصص في مجال العلوم السياسية بالجامعات السودانية النزير محمد دفع الله أن أي محاولة لإلغاء الإعلان من طرف تنسيقية “تقدم” قد تسهم في مزيد من العزل السياسي لـ”الدعم السريع”، كما يعمل على ذلك جانب الجيش، لكنها ربما تدفعه إلى التصرف عسكرياً بصورة أكثر شراسة وانتقامية وارتكاب مزيد من الانتهاكات، فضلاً عن ذلك في شأنه أيضاً أن يضفي مزيداً من الارتباك والتعقيدات على المشهد السياسي المضطرب أصلاً.
خذلان وجهوية
بحسب دفع الله فإن إنهاء الاتفاق من طرف “تقدم” في شأنه أن يعزز من شعور “الدعم السريع” بالخذلان من قبل نخبة الشمال النيلي، ويعمق بالتالي عداءه للعنصر النيلي من السكان بسبب ما ظل يعتقده حول هيمنتهم على مقاليد البلاد وتهميش الأطراف، مما قد يشكل نقطة فارقة في تحول الحرب كلياً إلى منحى جهوي بالكامل يهدد وحدة البلاد.
وحذر الأكاديمي السوداني من أن إلغاء الإعلان قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام والتشتت بين القوى السياسية والمدنية السودانية، غير مستبعد أن تتسبب جدلية إلغاء أو الإبقاء على الإعلان في بروز الخلافات التي ظلت مكتومة داخل جسم تنسيقية “تقدم” نفسها، مما سيعقد مستقبلاً من عملية الوصول إلى التوافق السياسي العريض. وأشار إلى أن إعلان أديس أبابا أسهم في تقويض حيادية تنسيقية “تقدم”، ومع ذلك فإن بقاء الإعلان سيؤسس لشرعنة دور قوات “الدعم السريع” في المستقبل السياسي للسودان، مما سيصعب كذلك أي محاولات للحلول السودانية الداخلية بسبب رفض الجيش لذلك.
تكريس الإقصاء
النزير محمد دفع الله نوه أيضاً بأن تناول الإعلان لقضايا العملية السياسة والتأسيس لبناء الدولة ما بعد نهاية الحرب أمر معني به القوى السياسية كافة، وليس طرفي الحرب فحسب، وهو ما أثار غضب التيارات السياسية المدنية الأخرى على الإعلان وعدته تكريساً لمبدأ الإقصاء.
إلى ذلك أعلنت الآلية الوطنية لدعم التحول المدني الديمقراطي لوقف الحرب عن توافق أكثر من 30 مكوناً مدنياً وسياسياً، إضافة إلى أجسام نقابية ومهنية، بينها لجان مقاومة وتنظيمات نسوية وشبابية وشخصيات وطنية داخل وخارج السودان، على تبني دعوة إلى توحيد الجبهة المدنية لوقف الحرب تسهم في رفع معاناة تبعات الحرب عن السودانيين.
وأكد اجتماع افتراضي مشترك ضم تلك المجموعات ضرورة الشروع في ترتيبات عقد مائدة مستديرة كآلية تتيح حواراً واسعاً يسهم في تأسيس منصة حوار وطني سوداني يقود إلى توافق أكبر بين كل المكونات المدنية السودانية.
في الأثناء تنظم الخارجية السويسرية ومنظمة (برومدييشن) خلال الفترة بين الـ25 والـ28 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري الاجتماع الرابع لحوار “سوداني – سوداني” في مدينة جنيف بمشاركة الاتحاد الأفريقي والحكومة المصرية كمراقبين.
إنهاء الاستقطاب
وأوضح مبارك المهدي أن هذه الحوارات تهدف لإنهاء حالة الاستقطاب الحاد التي حدثت بعد الحرب وتقريب وجهات نظر القوى السياسية بهدف دعم المبادرات الرسمية لكل من الاتحاد الأفريقي ومصر الهادفة إلى توحيد القوى المدنية حول شروط المسار السياسي لعملية السلام والعودة للحكم المدني، مشيراً إلى أن الجهد يصب في جهود السلام والحفاظ على كيان الدولة السودانية.
وعلى خلفية توقيع الإعلان فتحت اللجنة الوطنية للتحقيق في جرائم وانتهاكات قوات “الدعم السريع” في السودان بلاغات ضد كل قيادات تنسيقية “تقدم”، وطالبت الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) بإصدار نشرة حمراء في حقهم.
واندلعت الحرب السودانية بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في منتصف أبريل (نيسان) 2023، وسرعان ما تمددت إلى معظم ولايات البلاد، متسببة في موجة نزوح هي الأكبر في العالم، إلى جانب كارثة إنسانية ومجاعة تهدد أكثر من نصف السودانيين.
تعليق